التواب

التواب
انعصر قلب يعقوب ألماً حينما رجع أبناؤه دون يوسف
استشعر الغدر… ولم يحاججهم به
فالحسد أكل قلوبهم ولسب عقولهم
بكى حسرة حتى ابيضت عيناه
وأبت أن تبصر دون يوسف
وظلَّ يوسف في ظلمات البئر
ظلمات الصحراء… ومعها ظلمات الفراق
ثمّ مضى في مسيرة عجيبة… ابتدأت بخروجه من البئر وبيعه
وبعدها بحبسه… ثم بتنصيبه كمؤتمن عزيز

هو يعرف حال أبيه من لوعة فراقه
ويعرف أنّه أمر مبيّت… وليس حادثًا عابرًا
ويعرف مدى قسوة إخوته وجفائهم
ويعرف أنَّهم لا يحبّون قربه
ويعرف أنّ ظلم ذوي القربى أشدّ إيلاماً
وليس أي قربى… إنهم إخوته
من تعهدوا بحفظه ورعايته

وحين دارت رحى الأيام وعرفوه بعد عزّه
تأدّب معهم بقلب مشفق محب
ولطف بهم لطفاً لا تُطيقه إلا روح سامية
فلم يعتب عليهم حين قالوا إن كنّا لخاطئين
بل قال لهم لا تثريب عليكم
واليوم يغفر الله لكم
وهو أرحم الراحمين
ولم ينسب خطأهم إليهم… بل للشيطان
ذلك الذي نزغ بينه وبينهم

فمَن مثله يدرك بأن التوّاب له باب لا يُغلق طرفة عين
يُشرف على بستان التوبة الواسع الجميل
ذلك الذي به شذى رياحين محبّة الرحمن ورحمته
و به طيور لا تكلّ ولا تنام
تُنادى بأطيب الألحان وأعذبها
تجتذب بها القلوب التي لا تزال رطبة
ولو ببعض قطرات بقيت من ندى فطرتها

أن تعال… وادخل هذا البستان
لتنال ما لا تعادل متعة أكبر ذنوبك رملة مدفونة منه
وتدعوك لتبقى في ربوعها ولا ترحل
وتلبسك طوق عهد التوبة
ذلك الطوق المرصّع بأجمل الجواهر وأثمنها
وتطلب منك بألا تكسره
لكي لا تخرج من النّور إلى الظلمات
ولكن إن خرجت… أسرع وارجع

سترى الباب مفتوحاً أمامك
يحتضنك بذات الاشتياق
ويلبسك الطوق مرة أخرى
ويهمس في إذنك… انتبه أن لا تكسره ثانية
لأنَّك قد تتوه وتضيع… ويلتبس عليك الطريق
أو تكون استنفذت عدد أنفاسك في هذه الدنيا
ولن يدعوك يوم جديد لتعيشه
أو قد تيأس من رحمة الرحمن… فلا تنظر للباب مرة أخرى
وتعتقد أنَّهم أغلقوه… أو أنَّهم طردوك

فتذهب بعيداً
وتقرر أن لا تسمع صوت طيور البستان
التي تواصل غناءها إليك…
أن ارجع
مهما تكن… وأيّاً تكن
حتى لو كنت حاملاً لأوزار تزن جبالا
فما عليك إلا أن تلبس طوق عهد التوبة… وتحافظ عليه
فالتوبة مقرونة بالرحمة
والله يحب التوابين