خانه / مناجات الحکم / الزيادة والكثرة…

الزيادة والكثرة…

الزيادة والكثرة…

 

المال الأكثر، والعلاقات الأوسع، والعقار الأكبر، والأجهزة والأدوات الأكثر، وغيرها من الأشياء التي يمتلكها الإنسان وبالإمكان الإكثار منها، قد تكوّن غاية وهدفاً محوريّاً للناس أساسها مبني على ثقافة مفادها بأنّ الأكثر هو الأفضل، وأنّ امتلاك الفرد نسبة أكبر من شيء يبدو جيّداً سيساعده ليكون أكثر سعادة، ويمنحه حصانة من الوقوع في الأزمات، وإن وقع فيها يسهل عليه الخروج منها بشكل أفضل، وأنّ الحصول على الأكثر يساعد في إزالة الهم ومسبباته وليس إضافته.

 

وهذا مدخل واسع من مداخل الوهم، فتاريخ الإنسان القديم والحديث يشهد بأنّ من امتلكوا ومن سخّروا حياتهم لامتلاك الأكثر لم يكونوا بالضرورة هم الأسعد في هذا الدنيا مقارنة بمن امتلكوا الأقل، أو كانت لديهم أولويات أخرى في حياتهم عدا العمل على زيادة ما يمتلكون، ولم تساعدهم الكثرة بالضرورة بأن يمضوا في طريق القيم والطريق الذي يوصلهم لسعادة الدنيا التالية، والتي بها يقاس حقيقة الخير الذي يصل إليه الإنسان لأنها هي الباقية والأبديّة. وقد يكون العكس أيضاً، فكل شيء يمتلكه الإنسان يكون لزاماً عليه الحفاظ عليه والاهتمام به والعمل على زيادته أو على الّأقل عدم نقصانه، فيأخذ ذلك بالضرورة جزءاً من حياته ويشغل حيّزاً من عقله وتفكيره، فكثرته فرح ونقصانه غمّ وغصّة، وهذا يستهلك طاقة منه ووقتاً ومجهوداً، ويتطلّب إعادة ترتيب أولويات حياته باستمرار، وقد تأتي أوقات عليه أن يساوم حين يقع في تزاحم أو تعارض، كأن يريد أن يعمل خيرًا يبدو صغيراً ولكنه يقع في تزاحم في الأولويّة أو الوقت لعمل شيء يصبّ في زيادة ما يمتلك أو منعه من النقصان، وقد تكون الزيادة التي سيجنيها كبيرة جداً في مقابل عمل ذلك الخير الصغير، وعليه قد يبدو له أن لا مجال للمقارنة، وأنّ إعطاء الأولويّة للعمل على حفظ أو زيادة ممتلكاته هو القرار الصحيح في هذا الحال، فتتنحى فرصة عمل ذلك الخير الصغير لصالح زيادة في عدد العلاقات، أو في المال، أو سعة العقار، أو الأجهزة والأدوات، أو أي شيء آخر. ومن الممكن تخيّل سيناريوهات لا متناهية للاحتمالات التي من الممكن أن لا تؤدّي تلك الزيادة لمنفعة بل إلى أذى أو نقصان في جوانب أساسيّة في الحياة كراحة القلب والهدوء والصفاء والوقت والحماس الذي يستطيع الإنسان استثمارها في عمل الخير ورقيّة الإنساني.

 

عدا الإيمان بالله والمحبّة والفضيلة، لا شيء زيادته خير بحد ذاته، فهو حمّال لأوجه متعددة يعتمد على استخدامها والسبب الذي يسعى لتلك الزيادة من أجله، وهذا مدخل دقيق لخداع الإنسان نفسه لسهولة إعطائه معاني جميلة لما يود القيام به حتى ولو لم تكن هي ذات معني جيّد في الواقع. فحتى العلم الذي يعتبر أمراً مطلوباً ومرغوباً لذاته، إلا أنَّ طلب زيادته لأجل زيادته قد يصبح وبالاً على الإنسان خاصّة حينما تكون طاقته النفسية لاستيعاب ذلك ضعيفة، فقد يصيبه الغرور والتكبر والتعالي، وقد يستخدمه في النيل لمكاسب مضرّة ومؤذية له ولغيره وإن بدت مربحة وجيّدة ، فتدفع به في الطريق المعاكس لجادة التطور الإنساني، فحينها مهما بدا ظاهراً أنّه في صعود إلا أنّه في انحدار.

 

فالكثرة وهم، وإحساس الامتلاك وهم، فكلّ ما نمتلكه انتقل من آخر ليصل إلينا ولن ينتهي في أيدينا، وكثرته تكثر همّنا في الدنيا وحسابنا في الآخرة، وقد نغفل عن بعضها ولكن الحسيب لا يغفل. وما نستطيع امتلاكه بشكل حقيقي هو أفكارنا وأعمالنا ونوايانا فقط، فهذه تنتقل معنا وملكيتنا لها كاملة، فمقتضى العقل أن يكون عملنا على امتلاك الأشياء وكثرتها وزيادتها يصب فيما يثري تلك الأفكار والأعمال والنوايا؛ لتساهم في أن تكون على الطريق الذي يوصلنا لخلافة الله على الأرض، وأن يكون سعينا لامتلاك أي شيء هنا، هو ليساعدنا بأن نصبح ذلك الإنسان الذي نحبّ أن نكون عليه في قبورنا، فحينها نستطيع أن نعيش حياتنا ونحن نجرّب مراحل متقدّمة من السلام والصفاء، ونقلل من شعورنا بالتزاحم في الأولويّات، فالمقياس للأولويّة هو ما يوصلنا للخير الإنساني.

همچنین ببینید

هل رأيت صورة في الإعلام أدمت قلبك من قسوة ظلم البشر؟

هل رأيت صورة في الإعلام أدمت قلبك من قسوة ظلم البشر؟ حولها فورًا في ذهنك …

يقول الفيلسوف المعاصر غلامحسين دينانى

يقول الفيلسوف المعاصر غلامحسين دينانى: “مخلوق كالوردة تبقى وردة إلى يوم القيامة، ولا تستطيع أن …

تشكل اللحظات الحازمة المفتاحية مفترق

تشكل اللحظات الحازمة المفتاحية مفترق طرق يكون فيها على الإنسان الاختيار بين الشعور بالأمان وانتخاب …

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *