خانه / مناجات الحکم / التصنّع والتكلّف…

التصنّع والتكلّف…

التصنّع والتكلّف…

 

يتمركز سعي الكثيرين للظهور بصورة جيدة ومقبولة في أعين الآخرين، ويحوز ذلك على أهمّية بالغة لديهم بحيث تصغر في مقابلها أمور أخرى ذات أهمّية بالنسبة لهم، وهم بذلك يحاولون كسب قبول من حولهم وإعجابهم بما يملكون من جوانب يعتقدون أنّها تساهم في ذلك، ويحاولون التصنّع فيما لا يمتلكون، فيتكلّفون الكلام والتصرّف الذي يؤدّي إلى ترسيخ الصورة التي يريدونها في أذهان الآخرين.

 

وقد يكون هذا التكلّف لشيء جيّد كمبدأ راق أو قيمة إنسانيّة، ومع ذلك، فمهما يكن هذا العمل المتكلّف جيّداً، إلا أنّه ليس شيئاً أصيلاً نابعاً من الداخل، وهو لا يعدو أن يكون حالة طارئة على الفرد تضطره ظروفه للعمل به بغية الوصول لغرض معين، فهو يمارس تلك القيمة لأنّها تضيف لمعاناً لصورته أمام الآخرين وليس لأنّه هو فعلاً مؤمن بها وهي جزء منه، فلو تواجد في مكان يمنحه الآخرون التقدير الذي ينشد دون أن يكون لتلك القيمة اعتبار وأهمّية، ينتفي السبب لممارستها بالنسبة إليه ولن يعد لها مكان لديه. وهذا التكلف لا يساعد في الصفاء، بل قد يمضي بالإنسان نحو العتمة والتعقيد.

 

فالتكلّف يفتح باباً من أبواب الوهم، إذ يسهل على الإنسان إقناع نفسه أنّه فعلاً يملك تلك الصفات الجيّدة التي يتصنّعها، فلا ينظر إلى داخله ويغرس تلك الصفات أو القيم لتكون جزءاً منه، فيغطّي رغبته للحصول على إعجاب الآخرين ورضاهم بغطاء الطيبة والمبادئ والقيم، وما أن تبدأ رياح الشدائد والمحن بالهبوب حتى تنزع ذلك الغطاء ويظهر الخواء الموجود تحته، فيُصدم هو من نفسه ويصدِم الآخرين معه. وقد يبرّر ذلك لنفسه بإقناعها بأنّ الشدائد والمحن هي وضع طارئ، غافلاً من أنها هي التي تمتحن المعدن الأصيل للإنسان وتزيح الأغلفة عنه، حتى تظهر حقيقته لنفسه أولاً وللآخرين ثانياً.

 

وتفادي التصنّع والتكلّف لا يعني أن يمتنع الإنسان عن عمل ما هو خير وصلاح في حال لم يكن ذلك العمل بالنسبة إليه عفوياً دون ضغط أو صعوبات، بل يعني أنّه يعمل ما هو سليم ولو صعب عليه، ويجبر نفسه على القيام به فقط لأنّه هو الفعل السليم والتصرّف الصحيح، وليس لأنّ ذلك العمل يرفعه درجة أو درجات في أعين الآخرين، وهو بذلك يركّز على المبادئ والقيم الإنسانية الراقية ومنها يستسقي التحفيز للعمل، فتكون حركته وتغييره وعمله نابع من الداخل إلى الخارج وليس العكس.

 

فلو ركز الإنسان على المبدأ والمفهوم والقيمة التي يريد أن يتبنّاها ويقوم بالعمل الذي يتناسب معها، ثمّ تكلّف فيها، فإنّه قد يكون متصنّعاً بعيداً عن العفوية، ولكن هذا التصنّع يمضي في المسار الصحيح لرقيّه الإنساني، ذلك لأنّ المحرّك والمحفّز لذلك هو الإيمان والاعتقاد النابع من الداخل، فلن يتغيّر عمله ويختلف تصرّفه باختلاف الأشخاص الموجودين حوله والبيئة التي يعيشها، ولن يصاب بالدهشة أو الإحباط أو الفرح لردود أفعال الآخرين على ما يقوم به، ويكون رقيّه الإنساني هو البوصلة التي ترشده للصفاء والانشراح.

همچنین ببینید

هل رأيت صورة في الإعلام أدمت قلبك من قسوة ظلم البشر؟

هل رأيت صورة في الإعلام أدمت قلبك من قسوة ظلم البشر؟ حولها فورًا في ذهنك …

يقول الفيلسوف المعاصر غلامحسين دينانى

يقول الفيلسوف المعاصر غلامحسين دينانى: “مخلوق كالوردة تبقى وردة إلى يوم القيامة، ولا تستطيع أن …

تشكل اللحظات الحازمة المفتاحية مفترق

تشكل اللحظات الحازمة المفتاحية مفترق طرق يكون فيها على الإنسان الاختيار بين الشعور بالأمان وانتخاب …

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *