خانه / مناجات الحکم / النظرة المجردة وتقييم الواقع…

النظرة المجردة وتقييم الواقع…

النظرة المجردة وتقييم الواقع…

 

إنّ الفاصلة بين النقطة التي ننظر منها والنقطة التي ننظر إليها ليست فضاءً خالياً، بل مساحة مليئة بعدسات مختلفة يدخل شعاع نظرتنا من خلالها فيصل لتلك النقطة متأثّراً بها، ثمّ يرتدّ إلينا ذلك الشعاع بعد ما يمرّ من خلال عدسات أخرى ليصل إلينا متأثراً أيضاً. فقد نعي وجود بعض تلك العدسات وقد يغيب عنّ وعينا بعضها الآخر، ولكن ذلك لا يغير من درجة تأثيرها، وهي في الغالب ناتجة عن أمور كثيرة نختارها نحن كمعتقداتنا ونظرتنا لأنفسنا وللحياة ولما نأمل ونحذر، وهي مجال خصب لأنواع الأوهام.

 

فحين ننظر لشخص أو حدث ما، قد نقوم بالتقييم بناءً على تجاربنا في الحياة، وما استنتجناه منها من مفهوم ما هو صحيح وخاطئ، وقد نأخذ ذلك الاستنتاج بشكل مطلق دون التأمل بسلامة وصحة المعنى الذي تم استنتاجه واستخلاصه من تلك التجارب. وللسبقيّات دور رئيسي في تقييمنا للأفراد والأحداث، فهي تؤثّر في انتقائنا لما نريد أن نرى وما نريد أن نغفل عنه، أي أنها تؤثر في الشعاع المرسل من النقطة التي ننظر منها إلى نقطة الحدث، وأيضا في الشعاع المرسل من نقطة الحدث الراجع إلينا مرّة أخرى، فحين تكون لدينا سبقيّات عن أفراد معينين، نميل بشكل كبير لأن تكون تجاربنا المستقبلية معهم تتواكب مع نظرتنا السابقة إليهم وأن لا تخيب ظنوننا في الصورة التي رسمناها لهم في أذهاننا وتوقعاتنا منهم، فنحاول أن نرى ما يعزز تلك الصورة وذلك التوقّع.

 

وقد يتوسّط الفاصلة بين النقطة التي ننظر منها وتلك التي ننظر إليها عدسة كبيرة سميكة تجسّد صورة أهوائنا ورغباتنا، فيكون ما نهوى هو المقياس لما يلتقطه شعاع نظرتنا، فلا نرى إلا ما نريد أن نرى وبالطريقة التي نريد، ونتفادى ما لا نريد، ونختار فقط النظر إلى الزاوية التي تعطينا الصورة التي تتطابق مع تلك التي تعبّر عن أهوائنا ورغباتنا، والتي تدين من نريد وتبرئ من نحب، ليس بناء على حقيقة وواقع، بل بناء على ما نهوى. كما وأنّ عدسة الهوى هذه تحفّزنا بأن لا نعطي أي معنى للأحداث بما يجبرنا على الخروج من دائرة الراحة التي نحيط أنفسنا بها، فحتى آلام الآخرين وحاجاتهم قد تمر من خلال عدسة أهوائنا، فإن كان ما بهم يضعنا أمام مسؤولية أو ملامة أو أي وضع لا نريد أن نكون فيه، ننظر لذلك الحدث بنظرة النكران وكأنّنا لا نراه، وإن لم نستطع أن ننكر رؤيته، نعطيه معنى يعفينا من أي مسؤولية أو وضعاً غير محمود بالنسبة لنا.

 

ونستطيع أن نغلق أبواب الوهم بمقدار تجرّدنا من عواطفنا وسبقياتنا وأهوائنا، وأن نرى الأحداث والأشخاص بشكل مجرّد ونقيّم الأمور كما هي من خلال منشور صاف، فننظر للأحداث من خلال مرحلتين، الأولى هي مرحلة فهم الواقع كما هو وبشكل منفصل عن ذواتنا ومن نكون وتأثيره علينا، تماما كما تنظر فراشة واقفة على جدار لحدث ما يدور في الغرفة لا علاقة لها به، وحين نجمع المعلومات بشكل مجرّد للحدث، ننتقل للمرحلة الثانية والتي نأخذ فيها تلك المعلومات والمعطيات ونربطها بأنفسنا وواقعنا ومبادئنا وقيمنا، فنزيد من احتمالات أن تكون المعلومات الواردة إلينا صحيحة وواقعية بعيدة عن التشويش، فيساعدنا ذلك على اتخاذ قرارات سليمة واستنتاج المفاهيم بناء على معلومات صحيحة وليست مشوّهة.

 

كثيرون هم الذين يعتقدون بأنّهم حياديون ويرون الواقع ويقيّمونه بنظرة موضوعية دون تدخل من أهوائهم أو ميولهم وما يرغبون فيه من النتائج وما يودّون أن تؤول إليه الأمور، ولو استطاعوا أن ينظروا لهذا الاعتقاد نظرة موضوعيّة، وراجعوا تاريخهم والأحداث التي مرّت بهم، لربّما استنتجوا شيئاَ آخر يحفّزهم لأن يكونوا أكثر وعياً في نظرتهم للأمور، وبذلك يكونون بالتأكيد أقل عرضة لظلم الآخرين وسوء الظن بهم. وهذا لا يقتصر فقط في التعامل مع الآخرين والأحداث، بل حتى على نظرة الإنسان لنفسه وتقييمه لها ولأفعاله وردودها ومشاعره وكلّ ما يخالج ذهنه وضميره، وبها يستطيع أيضاً أن يعرف مدى تمسّكه بمبادئه وبالقيم الإنسانيّة، فمن يرى صورة نفسه الحقيقيّة يستطيع أن يعمل على رقيها وتطويرها، فيكون بذلك أكثر عدلاً وإنصافاً لنفسه وللآخرين.

همچنین ببینید

هل رأيت صورة في الإعلام أدمت قلبك من قسوة ظلم البشر؟

هل رأيت صورة في الإعلام أدمت قلبك من قسوة ظلم البشر؟ حولها فورًا في ذهنك …

يقول الفيلسوف المعاصر غلامحسين دينانى

يقول الفيلسوف المعاصر غلامحسين دينانى: “مخلوق كالوردة تبقى وردة إلى يوم القيامة، ولا تستطيع أن …

تشكل اللحظات الحازمة المفتاحية مفترق

تشكل اللحظات الحازمة المفتاحية مفترق طرق يكون فيها على الإنسان الاختيار بين الشعور بالأمان وانتخاب …

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *